الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
.فوائد لغوية وإعرابية: قال السمين:قوله: {وَلَقَدْ آتَيْنَا موسى الكتاب}:قيل: أراد قومَ موسى فَحُذِفَ المضافُ، وأُقيم المضافُ إليه مُقامه؛ ولذلك أعاد الضميرَ مِنْ قولِه لعلَّهم عليهم. وفيه نظرٌ؛ إذ يجوز عَوْدُ الضميرِ على القومِ مِنْ غيرِ تقديرِ إضافتِهم إلى موسى، وتكونُ هِدايتُهم مُتَرَتِّبةً على إيتاء التوراةِ لموسى.{وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ (50)}.قوله: {وَمَعِينٍ}: صفةٌ لموصوفٍ محذوفٍ أي: وماءٍ مَعِيْنٍ. وفيه أحدهما: أنَّ ميمَه زائدةٌ، وأصله مَعْيُوْن أي: مُبْصَرٌ بالعينِ، فأُعِلَّ إعْلالَ مبيع وبابه، وهو مثلُ قولِهم كَبَدْتُه أي ضربْتُ كَبِدَه، ورَأَسْتُه أي: أصبتُ رأسَه، وعِنْته أي: أدركتُه بعيني. ولذلك أدخلَه الخليلُ في مادة ع ي ن. والثاني: أن الميمَ أصليةٌ، ووزنُه فَعيل مشتقٌّ من المَعْن. واختُلِف في المَعْن فقيل: هو الشيءُ القليلُ ومنه الماعُون. وقيل: هو مِنْ مَعَنَ الشيءُ مَعانَةً أي كَثُر. قال جرير:وقال الراغب: وهو مِنْ مَعَن الماءُ: جرى وسمى مجاري الماءِ مُعْنان. وأمعنَ الفرس: تباعَدَ في عَدْوِه، وأَمْعَنَ بحقي ذهبَ به، وفلان مَعَنٌ في حاجته. يعني سريعًا. قلت: كلُّه راجعٌ إلى معنى الجَرْيِ والسُّرْعة. اهـ. .تفسير الآيات (51- 56): قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (51) وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (52) فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (53) فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ (54) أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ (55) نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ (56)}..مناسبة الآية لما قبلها: قال البقاعي:ولما بين أن عيسى عليه السلام على منهاج إخوانه من الرسل في الأكل والعبادة، وجميع الأحوال، زاد في تحقيق ذلك بيانًا لمن ضل بأن اعتقد فيه ما لا يليق به، فقال مخاطبًا لجميعهم بعد إهلاك من عاندهم من قومهم على وجه يشمل ما قبل ذلك ردًا لمن جعله موجبًا لإنكار الرسالة، وتبكيتًا لمن ابتدع الرهبانية من أمة عيسى عليه السلام، إعلامًا بأن كل رسول قيل له معنى هذا الكلام فعمل به، فكانوا كأنهم نودوا به في وقت واحد، فعبر بالجمع ليكون أفخم له فيكون أدعى لقبوله: {يا أيها الرسل} من عيسى وغيره {كلوا} أنتم ومن نجيناه معكم بعد إهلاك المكذبين.ولما علو عن رتبة الناس، فلم يكونوا أرضيين، لم يقل {مما في الأرض} [البقرة: 168] وعن رتبة الذين آمنوا، لم يقل {من طيبات ما رزقناكم} [البقرة: 172] ليكنوا عابدين نظرًا إلى النعمة أو حذرًا من النقمة، كما مضى بيانه في سورة البقرة، بل قال: {من الطيبات} أي الكاملة التي مننت عليكم بخلقها لكم وإحلالها وإزالة الشبه عنها وجعلها شهية للطبع، نافعة للبدن، منعشة للروح، وذلك ما كان حلًا غير مستقذر لقوله تعالى: {يحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث} [الأعراف: 157].ودل سبحانه على أن الحلال عون على الطاعة بقوله: {واعملوا صالحًا} أي سرًا وجهرًا غير خائفين من أحد، فقد أهلكت عدوكم وأورثتكم أرضكم، ولم يقيد عملكم بشكر ولا غيره، إشارة إلى أنه لوجهه ليس غير، فإنهم دائمًا في مقام الشهود، في حضرة المعبود، والغنى عن كل سوى حتى عن الغنى، ثم حثهم على دوام المراقبة بقوله: {إني بما} أي بكل شيء {تعملون عليم} أي بالغ العلم.ولما كان هذا تعليلًا لما سبقه من الأمر، عطف على لفظه قوله: {وإن} بالكسر في قراءة الكوفيين، وعلى معناه لما كان يستحقه لو أبرزت لام العلة من الفتح في قراءة غيرهم {هذه} أي دعوتكم أيها الأنبياء المذكورين إجمالًا وتفصيلًا وملتكم المجتمعة على التوحيد أو الجماعة التي أنجيتها معكم من المؤمنين {أمتكم} أي مقصدكم الذي ينبغي أن لا توجهوا هممكم إلى غيره أو جماعة أتباعكم حال كونها {أمة واحدة} لا شتات فيها أصلًا، فما دامت متوحدة فهي مرضية {وأنا ربكم} أي المحسن إليكم بالخلق والرزق وحدي، فمن وحدني نجا، ومن كثر الأرباب هلك.ولما كان الخطاب في هذه السورة كلها للخلص من الأنبياء ومن تبعهم من المؤمنين، قال: {فاتقون} أي اجعلوا بينكم وبين غضبي وقاية من جمع عبادي بالدعاء إلى وحدانيتي بلا فرقة أصلًا، بخلاف سورة الأنبياء المصدرة بالناس فإن مطلق العبارة أولى بدعوتها.ولما كان من المعلوم قطعًا أن التقدير: فاتقى الأنبياء الله الذي أرسلهم وتجشموا حمل ما أرسلهم به من عظيم الثقل، فدعوا العباد إليه وأرادوا جمعهم عليه، عطف عليه بفاء السبب قوله معبرًا بفعل التقطع لأنه يفيد التفرق: {فتقطعوا} أي الأمم، وإنما أضمرهم لوضوح إرادتهم لأن الآية التي قبلها قد صرحت بأن الأنبياء ومن نجا معهم أمة واحدة لا اختلاف بينها، فعلم قطعًا أن الضمير للأمم ومن نشأ بعدهم، ولذلك كان النظر إلى الأمر الذي كان واحدًا أهم، فقدم قوله: {أمرهم} أي في الدين بعد أن كان مجتمعًا متصلًا {بينهم} فكانوا شيعًا، وهو معنى {زبرًا} أي قطعًا، كل قطعة منها في غاية القوة والاجتماع والثبات على ما صارت إليه من الهوى والضلال، بكل شيعة طريقة في الضلال عن الطريق الأمم، والمقصد المستقيم، وكتاب زبروه في أهويتهم ولم يرحموا أنفسهم بما دعتهم إليه الهداة من الاجتماع والألفة فأهلكوها بالبغضاء والفرقة، وهو منصوب بأنه مفعول ثان لتقطع على ما مضى تخريجه في الأنبياء، وقد ظهر كما ترى ظهورًا بينًا أن هذه إشارة إلى الناجين من أمة كل نبي بعد إهلاك أعدائهم، أي إن هذه الجماعة الذين أنجيتهم معكم أمتكم، حال كونهم أمة واحدة متفقين في الدين، لا خلاف بينهم، وكما أن جماعتكم واحدة فأنا ربكم لا رب لكم غيري فاتقون ولا يخالف أحد منكم أمري ولا تختلفوا وتفترقوا لئلا أعذب العاصي منكم كما عذبت أعداءكم.ولما كان هذا مما لا يرضاه عاقل، أجيب من كأنه قال: هل رضوا بذلك مع انكشاف ضرره؟ بقوله: {كل حزب} أي فرقة {بما لديهم} أي من ضلال وهدى {فرحون} أي مسرورون فضلًا عن أنهم راضون غير معرج الضال منهم على ما جاءت به الرسل من الهدى، ولا على الاعتبار بما اتفق لأممهم بسبب تكذيبهم من الردى.ولما أنتج هذا أن الضلال وإن وضح لا يكشفه إلا ذو الجلال، سبب عنه سبحانه قوله تسلية لرسوله- صلى الله عليه وسلم-: {فذرهم} أي اتركهم على شر حالاتهم {في غمرتهم} أي الضلاله التي غرقوا فيها {حتى حين} أي إلى وقت ضربناه لهم من قبل أن نخلقهم ونحن عالمون بكل ما يصدر منهم على أنه وقت يسير.ولما كان الموجب لغرورهم ظنهم أن حالهم- في بسط الأرزاق من الأموال والأولاد- حال الموعود لا المتوعد، أنكر ذلك عليهم تنبيهًا لمن سبقت له السعادة، وكتبت له الحسنى وزيادة، فقال: {أيحسبون} أي لضعف عقولهم {أنما} أي الذين {نمدهم} على عظمتنا {به} أي نجعله مددًا لهم {من مال} نيسره لهم {وبنين} نمتعهم بهم، ثم أخبر عن أن بدليل قراءة السلمي بالياء التحتية فقال: {نسارع لهم} أي به بإدرارنا له عليهم في سرعة من يباري آخر {في الخيرات} التي لا خيرات إلا هي لأنها محمودة العاقبة، ليس كذلك بل هو وبال عليهم لأنه استدراج إلى الهلاك لأنهم غير عاملين بما يرضي الرحمن {بل} هم يسارعون في أسباب الشرور، ولا يكون عن السبب إلا مسببه، ولكنهم كالبهائم {لا يشعرون} أنهم في غاية البعد عن الخيرات {سنستدرجهم من حيث لا يعلمون} [القلم: 44]. اهـ..من أقوال المفسرين: .قال الفخر: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا}.اعلم أن ظاهر قوله: {يا أيها الرسل} خطاب مع كل الرسل وذلك غير ممكن لأن الرسل إنما أرسلوا متفرقين في أزمنة متفرقة مختلفة فكيف يمكن توجيه هذا الخطاب إليهم، فلهذا الإشكال اختلفوا في تأويله على وجوه: أحدها: أن المعنى الإعلام بأن كل رسول فهو في زمانه نودي بهذا المعنى ووصى به ليعتقد السامع أن أمرًا نودي له جميع الرسل ووصوا به حقيق بأن يؤخذ به ويعمل عليه وثانيها: أن المراد نبينا عليه الصلاة والسلام لأنه ذكر ذلك بعد انقضاء أخبار الرسل، وإنما ذكر على صيغة الجمع كما يقال للواحد أيها القوم كفوا عني أذاكم ومثله {الذين قَالَ لَهُمُ الناس} [آل عمران: 173] وهو نعيم بن مسعود كأنه سبحانه لما خاطب محمدًا صلى الله عليه وسلم بذلك بين أن الرسل بأسرهم لو كانوا حاضرين مجتمعين لما خوطبوا إلا بذلك ليعلم رسولنا أن هذا التثقيل ليس عليه فقط، بل لازم على جميع الأنبياء عليهم السلام وثالثها: وهو قول محمد بن جرير أن المراد به عيسى عليه السلام لأنه إنما ذكر ذلك بعدما ذكر مكانه الجامع للطعام والشراب ولأنه روى أن عيسى عليه السلام كان يأكل من غزل أمه، والقول الأول أقرب لأنه أوفق للفظ الآية، ولأنه روي عن أم عبد الله أخت شداد بن أوس أنها بعثت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بقدح من لبن في شدة الحر عند فطره وهو صائم. فرده الرسول إليها وقال من أين لك هذا؟ فقالت من شاة لي، ثم رده وقال: من أين هذه الشاة؟ فقالت اشتريتها بمالي فأخذه.ثم إنها جاءته وقالت: يا رسول الله لم رددته؟ فقال عليه السلام بذلك أمرت الرسل أن لا يأكلوا إلا طيبًا ولا يعملوا إلا صالحًا.أما قوله تعالى: {مّنَ الطيبات} ففيه وجهان: الأول: أنه الحلال وقيل طيبات الرزق حلال وصاف وقوام فالحلال الذي لا يعصى الله فيه، والصافي الذي لا ينسى الله فيه والقوام ما يمسك النفس ويحفظ العقل والثاني: أنه المستطاب المستلذ من المأكل والفواكه فبين تعالى أنه وإن ثقل عليهم بالنبوة وبما ألزمهم القيام بحقها، فقد أباح لهم أكل الطيبات كما أباح لغيرهم.
|